الصفحة الرئيسية  قضايا و حوادث

قضايا و حوادث خطير: 10 حالات أطفال تونسيين ينتحرون سنويا!

نشر في  17 ديسمبر 2014  (10:48)

أصبح عاديا أن نتابع يوميا أخبار المنتحرين عبر صفحات الحوادث، لكن الجديد والمثير للدهشة أن يزحف غول الانتحار إلى عالم الأطفال المملوء بالبراءة أو هكذا يفترض، فهذ تلميذة بالمرحلة الثانوية تقدم على محاولة الإنتحار بإلقاء نفسها من الطابق الثاني لأحد المعاهد بمعتمدية قصور الساف من ولاية المهدية بعد أن تركت رسالة تعبّر فيها عن رغبتها في الموت. حادثة أليمة تذكرنا بما حدث لطفلة ال10 سنوات، من منطقة المجادبة التابعة لولاية صفاقس، التي أقدمت على محاولة الانتحار شنقاً، حيث صعدت على كرسي وربطت رقبتها بقطعة قماش وقفزت نحو الأرض، لتدخل إثر ذلك في غيبوبة، دون معرفة أسباب إقدامها على الانتحار.
 محاولة إنتحار أخرى لتلميذة من مواليد 1998 أصيلة منطقة طرزة مرسمّة بالسنة الثانية ثانوي بالمعهد الثانوي بمعتمدية حفوز من ولاية القيروان بإلقاء نفسها من الطابق الأول للمعهد احتجاجا على طردها من المبيت. لكن من أكثر هذه الحوادث مأسوية، ما حصل للتلميذة شيراز أصيلة معتمدية العلا من ولاية القيروان التي انتحرت شنقا وهي لم تتجاوز ال12 عاما لعدم قدرتها علي استيعاب المنهج الدراسي وبسبب المعاملة القاسية التي تتلقاها في المبيت. نفس المعتمدية شهدت أربع حالات إنتحار أخرى برزت بشكل خاص بين الأطفال والتلاميذ، لذلك يمكن أن نمر دون أن نستحضر جريمة الإنتحار التي ارتكبتها فتاة ال13 عاما في حق نفسها. والقائمة تتسع لتضم بين الحين والآخر ضحايا جدد من كامل أرجاء البلاد.
ظاهرة انتحار الأطفال أطلّت برأسها مؤخرا في تونس، فاكثر من 10 حالات إنتحار فعلي للأطفال تسجل سنويا وأكثر من 15 محاولة إنتحار. وبدلاً من أن ينمو لدى أطفال المدارس والمعاهد حب المثابرة والاجتهاد، تنتفي لديهم الرغبة في الحياة فيكون قرار قتل الذات «الانتحار» هو آخر وأخطر قراراتهم الذي يسرق براءتهم ويحرمهم من الاستمتاع بطفولتهم الجميلة.

تكرار هذه الحوادث أثار تساؤلات عديدة: لماذا يقبل طفل لا يزال في خطواته الأولى الى التخلص من حياته؟ وعلى من تقع المسؤولية؟ الأسرة أم المدرسة أم كافة مؤسسات المجتمع؟ وهل من سبيل للعلاج؟ أم أن انتحار الطفولة سيظلّ صرخات في واد عميق بلا مجيب ولا مغيث؟

خليّة أزمة في العلا...

ولأن ولاية القيراون وتحديدا معتمدية «العلا» أصبحت في صدارة المناطق التي اكتسحتها ظاهرة إنتحار الأطفال، اتصلت «أخبار الجمهورية» بمندوب حماية الطفولة بالقيروان صبري بحيبح لمعرفة الأسباب الرئيسية لانتشار هذه الظاهرة .حيث برر محدثنا جرائم إنتحار الأطفال بضعف الإحاطة والتربية من قبل الأسرة بسبب تردي الأوضاع الإجتماعية والفقر، موضحا أن هناك أسباب أخرى يتحملها المجتمع والدولة كضعف البنية التحتية والإفتقار إلى المرافق الاجتماعية والتربوية. وفي هذا السياق، أكد بحيبح أنه أمام صمت السلطات القائمة، بادرت مندوبية حماية الطفولة بالجهة بمتابعة ورصد ملابسات جرائم الإنتحار لدى الأطفال وذلك إنطلاقا من أخر حادثة إنتحار التي راحت ضحيتها الفتاة شيراز التي أسلفنا بذكرها. مصرحا أنه تم تشكيل خلية أزمة تحت إشراف مندوب حماية الطفولة ورئيس قسم النهوض الإجتماعي واخصائيان إجتماعيان ونفسانيان واخصائية علم نفس تابعة للمندوبية الجهوية للتعليم بالتعاون مع النيابة العومية وقاضي التحقيق بالمكتب الثالث بالمحكمة الإبتدائية بالقيروان للنظر في حيثيات هذه الجريمة التي قد تهدد أيضا مستقبل عدد من أطفال الجهة.

أولياء يوجهون أصابع الإتهام إلى المؤسات التربوية

أرجعت السيدة بثينة والدة الضحية شيراز  أسباب إنتحار ابنتها إلى الظروف القاسية والمتدهورة التي كانت تعيشها الضحية في معهد دراستها وفي المبيت التي كانت تسكنه. حيث أفادت الوالدة خلال إستضافتها في برنامج «عندي ما نقلك»، أن الضحية أجبرت على العيش في المبيت التابع لمعهدها الذي يبعد عن مقر سكناها بحوالي 20 كلم. غير أنه إلى جانب معاناة بعدها عن عائلتها، طالت الضحية أنواع أخرى من المعاناة تمثلت في المعاملات القاسية التي تقوم على التمييز والإحتقار والسب والشتم والعقاب والذل من قبل المسؤولين في المبيت، بالإضافة إلى الظروف المعيشية المتدهورة من وجبات غذائية متعفنة ونقص في الأغطية والبرد القارس والإكتظاظ.
وأشارت السيدة بثينة إلى أن الهالكة سردت مأساتها في عدد من الرسائل مايدلّ على إستعدادها لوضع حد نهائي لمعاناتها بعد أن فاضت الكأس وفق تعبيرالوالدة. وفي إحدى الرسائل كتبت الهالكة «أمي أبي سامحوني أنا كنت لا أحب أن أذهب إلى المعهد بالعلا لاني متعذبة كثيرا. فاما إن كنتم أنتم مصرون فأنا لم أعد أتحمل هذا العذاب. سامحوني سامحوني».»
وفي سياق متصل، إتهمت والدة الضحية مدير المعهد والمبيت والمسؤولين بالوقوف وراء إنتحار إبنتها، مشيرة إلى أن هذه الحادثة لن تكون الأخيرة وأن الإنتحار سيستهدف تلاميذ أخرين مادام هذا المعهد والمبيت على حالهما.
  وفي أحد تصريحاته،إتهم  الأب محمد علي المسؤولين التربويين وعلى رأسهم حارس ومدير المدرسة بالتورط في إنتحار ابنه أصيل ولاية القيروان الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة وذلك يوم 16 أفريل 2014 بسبب  طرده  من المدرسة خصوصاً أنّه لا يعاني أية اضطرابات نفسية بل كان يطمح إلى مواصلة دراسته. كما لم يفت والد الهالك الحديث عن تردي الأوضاع الاجتماعية للعائلة، ومعاناتها من الفقر والتهميش.
أما ولي الضحية جميل (14 عاماً) تلميذ آخر أقدم على قتل نفسه، ليس شنقاً وإنما حرقاً هذه المرّة  داخل مدرسة في  سيدي بوزيد، بعد خلاف بينه وبين أحد الإداريين، فأشار  إلى أنه تلقى مكالمة هاتفية لاستخراج بطاقة دخول لابنه، ولما كان في طريقه إلى المدرسة الإعدادية، تلقى خبراً مفاده أن ابنه أقدم على إضرام النار في جسده بعد تعنيفه من قبل القيّم العام، مؤكداً أنّ المسؤول في المدرسة لم يكلف نفسه حتّى عناء منع ابنه من حرق نفسه، وفق ما أفاد به زملاؤه في المدرسة. وطالب الوالد في أحد تصريحاته وزارة التربية بفتح تحقيق في القضية، لمعرفة أسباب الخلاف بين ابنه وبين المسؤول في المدرسة.

قراءات علمية ونفسية وإجتماعية للظاهرة

يرى الأخصائي في علم الإجتماع طارق بالحاج محمد أن هناك عوامل نفسية واجتماعية تتعلق أساسا بسوء التكيّف مع المحيط العائلي والاجتماعي. فعادة ما تكون حالة انتحار الأطفال مرتبطة بأولئك الذين يعيشون وضعية تهديد إما بسبب التفكك الأسري كالطلاق أو التقصير في الرعاية الأسرية كإهمال الأسرة لأبنائها أو سوء المعاملة كالتسلّط والتعنيف والتشغيل القسري واستغلال الأطفال في أنشطة مهينة كالتسوّل والدعارة وغيرها.
 هذه الوضعيات المهينة والمهددة للأطفال تتضاعف مخاطرها حين تقترن بالأزمة الاقتصادية والفقر والحاجة بشكل يسيء للحرمة الجسدية والنفسية للطفل فيهزم أمام ذاته وتغلق أمامه أبواب الأمل وأحلام الخلاص من هذه الوضعية بشكل يدفعه الى وضع حد لحياته ومعاناته وعذابه.
 وتحدث عالم الاجتماع أيضا عن سببين هيكليين يتمثل الأول في طبيعة المجتمع التونسي الحديث وضعف آليات الحماية الأسرية والاجتماعية والعاطفية. فسيادة العائلة في المشهد الاجتماعي الراهن أفقدت العلاقة الأسرية مساحات الود والمحبة والرعاية والحماية التي كان يوّفرها الأقارب والأجداد في العائلة التقليدية الممتدة.
ويواصل: «وفي ايقاع الحياة الحديث الذي يجبرالأولياء على التفويت في تربية وتنشئة أبنائهم ووضعهم على ذمة مؤسسات بديلة كدور الحضانة ورياض الأطفال منذ الأشهر الأولى للولادة يفقد الطفل الإحساس بالانتماء والمحبة والرعاية والحماية الأسرية مما يجعله فريسة لكل المواقف والسلوكيات المحفوفة بالمخاطر بما فيها الإقدام على الانتحار، فنحن إزاء جيل جديد منبّت جاء للحياة بلا جذور ولا انتماء ولا رعاية فكيف يمكن أن نتوقع منه سلوكيات سوية في وضع نفسي واجتماعي غير سويّ وفي مرحلة شديدة الحساسية والهشاشة وهي مرحلة الطفولة».
 أما السبب الهيكلي الثاني فيتعلق بتطور المنظومة القانونية للحماية وقلة كفاءتها فهي في الغالب منظومة صورية وشكلية وروتينية تمتلك ترسانة قانونية وتقدمية ضامنة نظريا للحماية، لكن الواقع يثبت أنها غير قادرة على ذلك سيما مع تزايد حالات التهديد وتراجع هيبة الدولة وقدرتها على تنفيذ وتطبيق القانون وتراجع أداء المؤسسات المخولة والمكلفة بالحماية.
ويؤكد محدثنا أن عديد الدراسات العلمية والنفسية أرجعت ظاهرة إنتحار الأطفال إلى حالات الاكتئاب الشديد الذي يعمل على تغيير كيمياء المخ والأخذ في الانتشار، والمتوقع أن يكون المرض الثاني على مستوى العالم في 2020  إضافة إلى استخدام المخدرات، وكذلك الانفصام والاضطراب الوجداني ثنائي القطب.
 فالاكتئاب من أكثر ظواهر العنف خطورة وأكثرها سببًا للانطوائية وأكثر الاضطرابات التي يجب دراستها حتى لا يغرق كثيرون في بحور التعاسة إلى الدرجة التي تدفعهم إلى اتخاذ قرار الانتحار الخطير، وهو من أقسى القرارات التي يتخذها المرء حيال نفسه وأهله والمجتمع.


من يوقف النزيف؟

سواء كانت حالة الانتحار عند الأطفال لأسباب ظرفية أو نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية فإن المهم ليس السبب بقدر ما هو خطورة هذه الظاهرة لأنها تمس فئة عمرية واجتماعية هشة من واجب الجميع حمايتها من نفسها ومن محيطها العدائي وكل حالة جديدة نسجلها هي تأكيد بؤس الواقع الدرامي الذي ينخر من العمق الداخلي لتونس . كما أنه  دليل على عجز المجتمع والدولة على تحدي الواقع تغييره. والأخطر من ذلك، تملص المسؤولين الكبار من المسؤولية والتهاون بهذه الكارثة دون الوقوف وارء الاسباب العميقة وراء إنتحار أطفالنا.

إعداد: يثرب مشيري